الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

سجناء صاروا رمزاً للوفاء


سجناء صاروا رمزاً للوفاء


بقلم  ولـــ الأجوا ــد

 تكاد تكون المدينة خالية من ساكنيها، فالكل منهمك في أشغاله والأهالي منتشرين بين الوديان والشعاب فاليوم هو يوم عرفة وغداّ هو يوم النحر والعيد، هكذا بدت بني وليد صبيحة التاسع من ذي الحجة من عام 1920، لم يخطر ببال عبدالنبي بلخير أن الخطر يزحف باتجاه مدينته، فقد كانت خلافات سياسية مع الإخوة والجيران لم ترد ببال أحدهم أن تصل لحد غزو الأخ على ديار أخيه عشية عيد الأضحى.

كانت المدينة تعيش بسلام وكانت القلعة تحت حراسة خفيفة لأن لا خطر يهدد المدينة ومظاهر العيد تغلب على الأجواء، كان بلخير قبلها قد أودع مجموعة من قبيلة الأعطيات السجن لمشاكل داخلية حيث تحفّظ عليهم حتى حلها. كل هذا والجيش القادم يقترب من المدينة ولا لأحد علمٌ به الا خالقهم، ظهرت أولى طلائع الجيش الغازي من الجهلة القبلية حيث الطريق للسدادة وأتى الجيش عبر وادي غبين الى ما يعرف حينها "ببرّاكة الطيار" وهي الأرض التي عليها اليوم مصنع الصوف والفروسية وما جاورها من الحي الصناعي.

ما أن لاحت طلائع الجيش الجرار الغازي حتى وصل النبأ لعبدالنبي بلخير في قلعته، كانت لحظات عصيبة، فمعظم الأهالي -كما هو معروف- في نجوعهم المتناثرة في وديان المدينة الشاسعة، حيث القلة فقط كانت تسكن المدينة والباقي يأتونها في أوقات جني ثمار الزيتون فقط.

بادر بلخير بأمر أحد رجاله الأشداء المعروف بـ "مرسال" بضرب الطبل المعروف بطبل ورفله الذي لا يُضرب عليه الا في الأمور العظام، وقف مرسال أمام الطبل وسمّى الله وضربه ضربةً تردد صداها في كل الأرجاء، حينها كان الأهالي يتبعون أغنامهم والبعض يقوم على شؤونه حيث بدّد سكون تلك البادية الهادئة صوت الطبل الرنّان، اشرأبت الأعناق في لحظة صمت من الجميع لا يُسمع فيها الا صوت الطبل، نظر بعض الرجال إلى بعضهم فهم يعرفون ما ضُرب الطبل إلا لأمرٍ جلل. سارعوا إلى بنادقهم ووثبوا على صهوة خيولهم وكلهم مقصدهم واحد ألا وهو بني وليد وقلعتهم الحصينة.

في ذلك الأثناء؛ بلخير علم أن هبّة الأهالي ستأخذ بعضاً من الوقت حتى يصلوا المدينة فأطرق هنيهة يفكر ما عمل لصد الجيش الزاحف حتى وصول التعزيزات من الوديان، فما كان منه إلا أن نزل للسجن فتح الأبواب عن تلك المجموعة من قبيلة الأعطيات وقال لهم، هي مدينتكم وجيش الغزاة على مشارفها؛ فانظروا ماذا أنتم صانعون، ولأن دم ورفله يجري في عروقهم، والنخوة والشهامة والوفاء متأصل في جذورهم، قالوا له أين البنادق فلا خير فينا إن لم نذد عن حمى أرضنا.

هنا يظهر النموذج الحق المشرف لأولئك  الأحرار الأشراف الذين لم يتنكّروا لقبيلتهم حتى وهم في سجونها فما كان هذا يثنيهم ولا يثبّطهم عن الدفاع عنها، فما أن خرجوا من القضبان حتى وقفوا للجيش الغازي وقاتلوا بكل بسالة حتى وصل الأهالي من كل حدب وصوب ليسطروا أروع ملاحم الفداء والبطولة، ويقهروا الجيش الغازي، ليوقن الجميع أن بني وليد ارصيفة تتحطم عليها أمواج البحور.

لقد كان لأبناء قبيلة الأعطيات الفضل الكبير في تعطيل الجيش والدفاع عن القلعة والحفاظ على هيبة المدينة وشموخها، فسبحان الله كيف علّم هؤلاء السجناء الجميع معنى الوفاء والانتماء وأن شرف المدينة فوق كل اعتبار.

اليوم أقلّب صفحات الماضي وأكتب هذه القصة لأذكّر أولئك القابعين على طريق السدادة وأمثالهم على صفحات الانترنت المتباكين لأعدائنا والمستغيثين بخصومنا لأجل الهجوم على مدينتنا، أهمس في أذنهم وأقول لهم أليس لكم في سجناء الأعطيات أسوة حسنة؟ ألا تتعلموا منهم معنى الوفاء للمدينة التي أغدقت عليكم كل خيراتها ولم تبخل يوماً عنكم بشي!؟

وأختم ببيت شعر للشاعر القُرشي علي ابن الجهم:

و جرّبنا و جرّب أوّلـُـونا *** فلا شيء أعزُّ من الوفاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق